الإمام الشافعي من حياته الى موته للشيخ الرائع محمد حسان
الإمام الشافعي من حياته الى موته للشيخ الرائع محمد حسان
السلام عليكم ورحمة الله
الإمام الشافعي علم من أعلام الأمة وآية في الحفظ والفهم والزهد، فقد حفظ كتاب الله تعالى وعمره سبع سنوات، ثم تعلم العربية الفصيحة من قبيلة هذيل. ثم حفظ موطأ مالك وجد واجتهد، وتنقل وارتحل في طلب العلم حتى حصّل الشيء الكثير.
الإمام الشافعي من أئمة علماء المسلمين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه نستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلَّغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصلِّ اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ثم أما بعد:
أحبتي في الله! فمع اللقاء السادس عشر مع أئمة الهدى ومصابيح الدجى، تلك السلسلة الكريمة التي نقدمها لأبناء الصحوة خاصة وللمسلمين عامة، لنبرز من خلالها القدوة الصالحة الطيبة، ولنبين من خلالها المثل العليا في وقت قلَّت فيه القدوة، بل وقدم فيه الفارغون والتافهون ليكونوا القدوة والمثال، ولنصحح من خلالها -أيضاً- بعض حقائق التاريخ التي شوّهت وحرّفت وبدّلت، لا سيما بعد فترة التغريب الطويلة التي مسخت الهوية وأضعفت الانتماء.
أحبتي في الله! إننا اليوم على موعد مع إمام كبير من الأئمة، وهاهي الأيام تمر، والأشهر تجري وراءها، تسحب معها السنين وتجر خلفها الأعمار، وتطوى حياة جيل بعد جيل، ومن الناس من تفارقنا أجسادهم وأبدانهم، وتبقى سيرتهم حية متحركة فاعلة عاملة، تنشر على الدنيا ربيع علمهم، وعبير فضلهم، وحسن خلقهم، ومع أننا نعيش عصراً حال فيه ضباب المادة، وغيوم المدنية الزائفة عن رؤية صفاء السماء، وما يشرق فيها من شموس وأقمار، وما يلتمع فيها من نجوم وكواكب، أقول: مع هذا كله إلا أن هناك من الأقمار والنجوم ما يبدد نوره ذلك الضباب، وما يخترق نوره تلك الغيوم ليبقى هذا الكوكب وهذا النجم متألقاً مشرقاً ينشر على الدنيا نوره، وينثر على الأرض وعلى الناس ضياءه.
ولم لا وهؤلاء حقاً أقمارٌ ساطعة تستمد نورها دائماً وأبداً من شمس النبوة، تلك الشمس الكريمة التي لا يغيب نورها ولا يخبو ضيائها.
أحبتي في الله! إننا اليوم على موعد مع إمام كبير من هذا الطراز، مع إمام أراني الآن وأنا أقدمه لحضراتكم في هذه الدقائق المعدودات معدداً مناقبه وفضائله ومآثره، أراني الآن كمن يدل على إشراق الصباح بمصباح، أين نور السها من شمس الضحى، ولم لا وقد قال عنه تلميذه الوفي الذكي النجيب إمام أهل السنة الإمام أحمد: كان كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فانظر هل ترى لهذين من عوض أو هل ترى لهما من خلف.
إنه فقيه الملة وناصر السنة وسيد أهل زمانه، الذي حاز المراتب العالية، وفاز بالمناقب السامية، فهو العالم بالقرآن وعلومه -انتبهوا فهذه رءوس أقلام لا يتسع الوقت لشرحها مفصلة- العالم بالحديث وأصوله، العالم بالفقه وقواعده، العالم باللغة والأدب والشعر وفرائده، العالم بالأنساب وأيام الناس، بل العالم بالطب في زمانه، العابد الزاهد التقي النقي، القرشي ثم المطلبي محمد بن إدريس الشافعي .
إننا اليوم على موعدٍ مع الإمام الشافعي، ووالله إني لأحس بخجل شديد وأنا أريد اليوم أن أقدم لحضراتكم الشافعي في هذه الدقائق المعدودات المعلومات، فمن هو الشافعي؟ تعالوا بنا سريعاً لنعيش مع حياة هذا العلم.
مولد الشافعي وحياته العلمية
ولد الشافعي سنة مائة وخمسين من الهجرة بمدينة غزة على أصح الأقوال لأهل العلم، ولما بلغ الشافعي سنتين انتقلت به أمه الفقيهة العالمة الحكيمة بعد موت أبيه إلى مكة زادها الله تشريفاً وتعظيماً وإجلالاً وتكريماً.
وفي ظلال الكعبة، وبين ربوع بيت الله الحرام نشأ الإمام الشافعي ، وفي سنٍ مبكرة جداً دفعت أم الشافعي الشافعي إلى شيخ من شيوخ الحرم المكي ليحفظه القرآن الكريم، فحفظ الشافعي القرآن كله في السابعة من عمره، ثم انتقل بعد ذلك إلى طلب العلم الشرعي بشغف شديد، وحافظة عجيبة، وذهن وقاد وحاد على يد أول أستاذ له وهو شيخ الحرم المكي حينذاك، الإمام العلم: مسلم بن خالد الزنجي رحمه الله تعالى.
رحلة الشافعي إلى الإمام مالك في المدينة
يقول الشافعي نفسه: ثم انتقلت بعد ذلك من مكة إلى قبيلة هذيل لأتعلم منها اللغة العربية، فلقد كانت قبيلة هذيل أفصح العرب بياناً ولغة وكلاماً، يقول: فرجعت بعد ذلك إلى مكة لأردد الأشعار وأذكر الآداب والأخبار وأيام العرب، فلقيني رجل من الزبيريين من بني عمي فقال لي: يا أبا عبد الله! والله إنه ليعز عليَّ ألا يكون مع هذه البلاغة والفصاحة والذكاء فقه.
يقول الشافعي : فقلت له: فمن من العلماء نقصده لطلب الفقه؟ يقول الشافعي : فقال لي هذا الرجل: تقصد سيد المسلمين مالك بن أنس في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول: فوقعت هذه القولة في قلبي -انتبهوا يا طلبة العلم- يقول الشافعي : فذهبت إلى رجل من أهل مكة علمت أنه يحوي عنده موطأ الإمام مالك ، يقول: فذهبت إليه واستعرت منه الموطأ وعكفت عليه، فحفظت الموطأ عن ظهر قلب في تسع ليالٍ، حفظ القرآن وعمره سبع سنين، وحفظ موطأ الإمام مالك في تسع ليالٍ لا في تسع سنين، يقول: فلما انتهيت من حفظ الموطأ أخذت رسالة من والي مكة ومن شيخي وذهبت إلى الإمام مالك ، وقص الشافعي رحلة طويلة جميلة عذبة لا يتسع الوقت لسردها.
وقال بإيجاز شديد: وصلت إلى الإمام مالك فلما كلمته، وأعجب الإمام مالك بذكائه وفصاحته ولغته وبيانه وإعرابه، قال مالك لهذا: يا غلام! ما اسمك؟
قال: محمد .
فقال: مالك : يا محمد ! إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية، فإني أرى أنه سيكون لك شأن كبير إن شاء الله عز وجل.
ثم قال مالك للشافعي : يا فتى إذا كان الغد تجيء ويجيء من يقرأ لك الموطأ .
فقال الشافعي : أنا قارئ، أنا أقرأ إن شاء الله تعالى.
يقول: فلما كان الغد أخذت الموطأ في يدي وجلست بين يدي شيخي مالك ، وأخذت أقرأ عليه الموطأ من حفظي، وكلما نظرت إلى مالك وتهيبت مالكاً -وكان مالك قد أعجب ببلاغتي وقراءتي وحسن إعرابي- فكلما أردت أن أنهي القراءة في الموطأ نظر إليَّ مالك وقال: زد يا فتى .. زد يا فتى .. زد يا فتى، حتى أنهيت الموطأ كله في أيامٍ يسيرة.
ثم بعد ذلك، لا تظنوا أن الشافعي أخذ عن مالك الموطأ فقط، وإنما أخذ عنه كل ما عنده من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنني ذكرت آنفاً في اللقاء الماضي -ونحن نتحدث عن مالك - أن الحديث الذي كان يحفظه مالك ليس هو الموطأ فحسب، فأخذ الشافعي الحديث عن الإمام مالك ، وأخذ عنه الفقه وفتاوى الصحابة وعمل أهل المدينة رضوان الله عليهم جميعاً.
ولبث الإمام الشافعي في المدينة المنورة ملازماً لشيخه ملازمة الظل لصاحبه حتى توفى الله مالكاً رضي الله عنه، ولم يكتفِ الشافعي بعلم مالك، وإنما رحل إلى شيوخ المدينة -وكانت المدينة حينئذٍ تزخر بالأئمة الأعلام والشيوخ الكبار- وأخذ العلم عنهم جميعاً.
رحلة الشافعي إلى اليمن
ولما توفي الإمام مالك رحل الشافعي مرة أخرى إلى بلد الله الحرام إلى مكة المكرمة ، وما لبث الشافعي في مكة إلا قليلاً، ثم رحل الشافعي مرة أخرى إلى بلاد اليمن لطلب العلم، -والله ما كانوا يركبون طيارات، ولا سيارات مكيفة، وإنما يركبون الدواب، إما على الحمار أو على الحصان أو على البغلة ويمشون تحت وهج هذه الشمس الخارقة، ينخفضون في وادٍ ويرتفعون على جبل، أما الآن وقد يسرت لنا بفضل الله جل وعلا جميع وسائل وأدوات طلب العلم إلا أننا نرى تكاسلاً رهيباً، وفرقاً شاسعاً، وبوناً كبيراً بيننا وبين هؤلاء الكرام- رحل الشافعي إلى اليمن ، وما لبث الشافعي إلا قليلاً حتى انتشر ذكره، وعلا قدره، وظهر فضله على جميع الشيوخ والعلماء وهو الذي ذهب طالباً للعلم حتى قال له شيخه مسلم بن خالد الزنجي حينما عاد من المدينة إلى مكة، قال له: افتِ يا أبا عبد الله، فإنك الآن أهل للفتيا، وهو غلام حدث صغير.
فاق الشافعي أقرانه بل وشيوخه في اليمن، وكان على اليمن والٍ يقال له: حماد البربري، من قبل خليفة المسلمين هارون الرشيد، وكان ظلوماً غشوماً جهولاً يظلم الناس، ولم يصبر الشافعي على هذا، فكثيراً ما كان يندد بظلمه في مجالس علمه، فلما سمع هذا الوالي بذلك، أرسل رسالة إلى خليفة المسلمين هارون الرشيد في بغداد يقول له: إن عندنا رجلاً من ولد شافع المطلبي لا أمر لي معه ولا نهي، فأصدر الخليفة أمراً لهذا الوالي أن يرسله إلى بغداد ، وكبل هذا الوالي الشافعي في الحديد والقيود بتهمة الخروج على الدولة -بدعة قديمة حديثة- وذهب به إلى خليفة المسلمين في بغداد التي كانت عاصمة الخلافة حينئذٍ.
فلما دخل الشافعي على هارون ، قال الشافعي : مهلاً يا أمير المؤمنين، فأنت الراعي وأنا المرعي، وأنت القادر على كل ما تريد مني، ثم قال: يا أمير المؤمنين، ما تقول في رجلين، أحدهما يراني أخاه، والآخر يراني عبداً له، أيهما أحب إلي؟
قال هارون : الذي يراك أخاه أحب إليك.
فقال الشافعي : فهو أنت يا أمير المؤمنين، فإنكم ولد بني العباس، وإننا إخوتكم من بني المطلب، وأنتم تروننا إخوة لكم وهم يروننا عبيداً لهم، فهل يعقل أن أترك من يقول: إني ابن عمه، وأن أذهب إلى من يقول إني عبد له، فاستوى هارون في مجلسه وعلم أنه أمام عالم فذ، وأمام واعظ كبير.
ونظر إليه هارون وسعِد سعادة غامرة وقال له: عظني، فوعظه الشافعي حتى أبكاه واخضلت لحيته بالبكاء الشديد، وأمر له هارون بعطاء كبير جداً، يقول الشافعي: والله ما ملكت من قبلها ألف دينار، وعاش الشافعي في بغداد معززاً مكرماً يعلم الناس ويفتيهم، وينشر العلم بينهم، ولم يلبث فيها إلا قليلاً حتى عاد مرة أخرى إلى مكة زادها الله تشريفاً وتكريماً.
رجوع الشافعي إلى مكة
كان الشافعي قد وصل إلى مرحلة فريدة في العلم، فجلس الشافعي في مكة يؤصل الأصول، ويقعد القواعد، واتخذ له حلقة في مسجد الله الحرام، جمعت إليه الناس ولفتت إليه الأنظار، وازدحمت حلقة الشافعي ازدحاماً عجيباً، حتى إن الإمام أحمد إمام أهل السنة جاء حاجاً من بغداد من بلاد العراق إلى مكة المكرمة شرفها الله، فترك الإمام أحمد حلقة شيخ الشافعي سفيان بن عيينة، وعكف في حلقة الشافعي، بل ولم يكتفِ الإمام بهذا، إنما ذهب إلى أخيه وصاحب رحلته إسحاق بن راهويه وقال: تعال يا إسحاق أريك رجلاً بـمكة ما رأت عيناك مثله، يقول إسحاق : فأراني أحمد الشافعي.
وأُعجب الإمام أحمد بذكاء وعلم الشافعي إعجاباً رهيباً، لأنه يسمع أصولاً وقواعد لأول مرة يسمعها وغيره من أهل العلم، فإن أول من أصَّل الأصول وقعد القواعد هو الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، حتى قال أحمد قولته الخالدة الجميلة: لولا الشافعي ما تعلمنا فقه الحديث، وقال: كان الفقه مغلقاً على أهله حتى فتحه الله بـالشافعي، وقال : ما من أحد مس محبرة ولا قلماً بعد الشافعي إلا وله في عنقه منّة، وقال: والله ما أعلم أحداً أعظم منة وبركة على الإسلام في زمن الشافعي من الشافعي.
تابع
عدل سابقا من قبل ⓜⓔⓜⓞ في السبت 21 يونيو - 21:29 عدل 1 مرات
الإمام الشافعي من حياته الى موته للشيخ الرائع محمد حسان
السلام عليكم ورحمة الله
الإمام الشافعي علم من أعلام الأمة وآية في الحفظ والفهم والزهد، فقد حفظ كتاب الله تعالى وعمره سبع سنوات، ثم تعلم العربية الفصيحة من قبيلة هذيل. ثم حفظ موطأ مالك وجد واجتهد، وتنقل وارتحل في طلب العلم حتى حصّل الشيء الكثير.
الإمام الشافعي من أئمة علماء المسلمين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه نستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلَّغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصلِّ اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ثم أما بعد:
أحبتي في الله! فمع اللقاء السادس عشر مع أئمة الهدى ومصابيح الدجى، تلك السلسلة الكريمة التي نقدمها لأبناء الصحوة خاصة وللمسلمين عامة، لنبرز من خلالها القدوة الصالحة الطيبة، ولنبين من خلالها المثل العليا في وقت قلَّت فيه القدوة، بل وقدم فيه الفارغون والتافهون ليكونوا القدوة والمثال، ولنصحح من خلالها -أيضاً- بعض حقائق التاريخ التي شوّهت وحرّفت وبدّلت، لا سيما بعد فترة التغريب الطويلة التي مسخت الهوية وأضعفت الانتماء.
أحبتي في الله! إننا اليوم على موعد مع إمام كبير من الأئمة، وهاهي الأيام تمر، والأشهر تجري وراءها، تسحب معها السنين وتجر خلفها الأعمار، وتطوى حياة جيل بعد جيل، ومن الناس من تفارقنا أجسادهم وأبدانهم، وتبقى سيرتهم حية متحركة فاعلة عاملة، تنشر على الدنيا ربيع علمهم، وعبير فضلهم، وحسن خلقهم، ومع أننا نعيش عصراً حال فيه ضباب المادة، وغيوم المدنية الزائفة عن رؤية صفاء السماء، وما يشرق فيها من شموس وأقمار، وما يلتمع فيها من نجوم وكواكب، أقول: مع هذا كله إلا أن هناك من الأقمار والنجوم ما يبدد نوره ذلك الضباب، وما يخترق نوره تلك الغيوم ليبقى هذا الكوكب وهذا النجم متألقاً مشرقاً ينشر على الدنيا نوره، وينثر على الأرض وعلى الناس ضياءه.
ولم لا وهؤلاء حقاً أقمارٌ ساطعة تستمد نورها دائماً وأبداً من شمس النبوة، تلك الشمس الكريمة التي لا يغيب نورها ولا يخبو ضيائها.
أحبتي في الله! إننا اليوم على موعد مع إمام كبير من هذا الطراز، مع إمام أراني الآن وأنا أقدمه لحضراتكم في هذه الدقائق المعدودات معدداً مناقبه وفضائله ومآثره، أراني الآن كمن يدل على إشراق الصباح بمصباح، أين نور السها من شمس الضحى، ولم لا وقد قال عنه تلميذه الوفي الذكي النجيب إمام أهل السنة الإمام أحمد: كان كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فانظر هل ترى لهذين من عوض أو هل ترى لهما من خلف.
إنه فقيه الملة وناصر السنة وسيد أهل زمانه، الذي حاز المراتب العالية، وفاز بالمناقب السامية، فهو العالم بالقرآن وعلومه -انتبهوا فهذه رءوس أقلام لا يتسع الوقت لشرحها مفصلة- العالم بالحديث وأصوله، العالم بالفقه وقواعده، العالم باللغة والأدب والشعر وفرائده، العالم بالأنساب وأيام الناس، بل العالم بالطب في زمانه، العابد الزاهد التقي النقي، القرشي ثم المطلبي محمد بن إدريس الشافعي .
إننا اليوم على موعدٍ مع الإمام الشافعي، ووالله إني لأحس بخجل شديد وأنا أريد اليوم أن أقدم لحضراتكم الشافعي في هذه الدقائق المعدودات المعلومات، فمن هو الشافعي؟ تعالوا بنا سريعاً لنعيش مع حياة هذا العلم.
مولد الشافعي وحياته العلمية
ولد الشافعي سنة مائة وخمسين من الهجرة بمدينة غزة على أصح الأقوال لأهل العلم، ولما بلغ الشافعي سنتين انتقلت به أمه الفقيهة العالمة الحكيمة بعد موت أبيه إلى مكة زادها الله تشريفاً وتعظيماً وإجلالاً وتكريماً.
وفي ظلال الكعبة، وبين ربوع بيت الله الحرام نشأ الإمام الشافعي ، وفي سنٍ مبكرة جداً دفعت أم الشافعي الشافعي إلى شيخ من شيوخ الحرم المكي ليحفظه القرآن الكريم، فحفظ الشافعي القرآن كله في السابعة من عمره، ثم انتقل بعد ذلك إلى طلب العلم الشرعي بشغف شديد، وحافظة عجيبة، وذهن وقاد وحاد على يد أول أستاذ له وهو شيخ الحرم المكي حينذاك، الإمام العلم: مسلم بن خالد الزنجي رحمه الله تعالى.
رحلة الشافعي إلى الإمام مالك في المدينة
يقول الشافعي نفسه: ثم انتقلت بعد ذلك من مكة إلى قبيلة هذيل لأتعلم منها اللغة العربية، فلقد كانت قبيلة هذيل أفصح العرب بياناً ولغة وكلاماً، يقول: فرجعت بعد ذلك إلى مكة لأردد الأشعار وأذكر الآداب والأخبار وأيام العرب، فلقيني رجل من الزبيريين من بني عمي فقال لي: يا أبا عبد الله! والله إنه ليعز عليَّ ألا يكون مع هذه البلاغة والفصاحة والذكاء فقه.
يقول الشافعي : فقلت له: فمن من العلماء نقصده لطلب الفقه؟ يقول الشافعي : فقال لي هذا الرجل: تقصد سيد المسلمين مالك بن أنس في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول: فوقعت هذه القولة في قلبي -انتبهوا يا طلبة العلم- يقول الشافعي : فذهبت إلى رجل من أهل مكة علمت أنه يحوي عنده موطأ الإمام مالك ، يقول: فذهبت إليه واستعرت منه الموطأ وعكفت عليه، فحفظت الموطأ عن ظهر قلب في تسع ليالٍ، حفظ القرآن وعمره سبع سنين، وحفظ موطأ الإمام مالك في تسع ليالٍ لا في تسع سنين، يقول: فلما انتهيت من حفظ الموطأ أخذت رسالة من والي مكة ومن شيخي وذهبت إلى الإمام مالك ، وقص الشافعي رحلة طويلة جميلة عذبة لا يتسع الوقت لسردها.
وقال بإيجاز شديد: وصلت إلى الإمام مالك فلما كلمته، وأعجب الإمام مالك بذكائه وفصاحته ولغته وبيانه وإعرابه، قال مالك لهذا: يا غلام! ما اسمك؟
قال: محمد .
فقال: مالك : يا محمد ! إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية، فإني أرى أنه سيكون لك شأن كبير إن شاء الله عز وجل.
ثم قال مالك للشافعي : يا فتى إذا كان الغد تجيء ويجيء من يقرأ لك الموطأ .
فقال الشافعي : أنا قارئ، أنا أقرأ إن شاء الله تعالى.
يقول: فلما كان الغد أخذت الموطأ في يدي وجلست بين يدي شيخي مالك ، وأخذت أقرأ عليه الموطأ من حفظي، وكلما نظرت إلى مالك وتهيبت مالكاً -وكان مالك قد أعجب ببلاغتي وقراءتي وحسن إعرابي- فكلما أردت أن أنهي القراءة في الموطأ نظر إليَّ مالك وقال: زد يا فتى .. زد يا فتى .. زد يا فتى، حتى أنهيت الموطأ كله في أيامٍ يسيرة.
ثم بعد ذلك، لا تظنوا أن الشافعي أخذ عن مالك الموطأ فقط، وإنما أخذ عنه كل ما عنده من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنني ذكرت آنفاً في اللقاء الماضي -ونحن نتحدث عن مالك - أن الحديث الذي كان يحفظه مالك ليس هو الموطأ فحسب، فأخذ الشافعي الحديث عن الإمام مالك ، وأخذ عنه الفقه وفتاوى الصحابة وعمل أهل المدينة رضوان الله عليهم جميعاً.
ولبث الإمام الشافعي في المدينة المنورة ملازماً لشيخه ملازمة الظل لصاحبه حتى توفى الله مالكاً رضي الله عنه، ولم يكتفِ الشافعي بعلم مالك، وإنما رحل إلى شيوخ المدينة -وكانت المدينة حينئذٍ تزخر بالأئمة الأعلام والشيوخ الكبار- وأخذ العلم عنهم جميعاً.
رحلة الشافعي إلى اليمن
ولما توفي الإمام مالك رحل الشافعي مرة أخرى إلى بلد الله الحرام إلى مكة المكرمة ، وما لبث الشافعي في مكة إلا قليلاً، ثم رحل الشافعي مرة أخرى إلى بلاد اليمن لطلب العلم، -والله ما كانوا يركبون طيارات، ولا سيارات مكيفة، وإنما يركبون الدواب، إما على الحمار أو على الحصان أو على البغلة ويمشون تحت وهج هذه الشمس الخارقة، ينخفضون في وادٍ ويرتفعون على جبل، أما الآن وقد يسرت لنا بفضل الله جل وعلا جميع وسائل وأدوات طلب العلم إلا أننا نرى تكاسلاً رهيباً، وفرقاً شاسعاً، وبوناً كبيراً بيننا وبين هؤلاء الكرام- رحل الشافعي إلى اليمن ، وما لبث الشافعي إلا قليلاً حتى انتشر ذكره، وعلا قدره، وظهر فضله على جميع الشيوخ والعلماء وهو الذي ذهب طالباً للعلم حتى قال له شيخه مسلم بن خالد الزنجي حينما عاد من المدينة إلى مكة، قال له: افتِ يا أبا عبد الله، فإنك الآن أهل للفتيا، وهو غلام حدث صغير.
فاق الشافعي أقرانه بل وشيوخه في اليمن، وكان على اليمن والٍ يقال له: حماد البربري، من قبل خليفة المسلمين هارون الرشيد، وكان ظلوماً غشوماً جهولاً يظلم الناس، ولم يصبر الشافعي على هذا، فكثيراً ما كان يندد بظلمه في مجالس علمه، فلما سمع هذا الوالي بذلك، أرسل رسالة إلى خليفة المسلمين هارون الرشيد في بغداد يقول له: إن عندنا رجلاً من ولد شافع المطلبي لا أمر لي معه ولا نهي، فأصدر الخليفة أمراً لهذا الوالي أن يرسله إلى بغداد ، وكبل هذا الوالي الشافعي في الحديد والقيود بتهمة الخروج على الدولة -بدعة قديمة حديثة- وذهب به إلى خليفة المسلمين في بغداد التي كانت عاصمة الخلافة حينئذٍ.
فلما دخل الشافعي على هارون ، قال الشافعي : مهلاً يا أمير المؤمنين، فأنت الراعي وأنا المرعي، وأنت القادر على كل ما تريد مني، ثم قال: يا أمير المؤمنين، ما تقول في رجلين، أحدهما يراني أخاه، والآخر يراني عبداً له، أيهما أحب إلي؟
قال هارون : الذي يراك أخاه أحب إليك.
فقال الشافعي : فهو أنت يا أمير المؤمنين، فإنكم ولد بني العباس، وإننا إخوتكم من بني المطلب، وأنتم تروننا إخوة لكم وهم يروننا عبيداً لهم، فهل يعقل أن أترك من يقول: إني ابن عمه، وأن أذهب إلى من يقول إني عبد له، فاستوى هارون في مجلسه وعلم أنه أمام عالم فذ، وأمام واعظ كبير.
ونظر إليه هارون وسعِد سعادة غامرة وقال له: عظني، فوعظه الشافعي حتى أبكاه واخضلت لحيته بالبكاء الشديد، وأمر له هارون بعطاء كبير جداً، يقول الشافعي: والله ما ملكت من قبلها ألف دينار، وعاش الشافعي في بغداد معززاً مكرماً يعلم الناس ويفتيهم، وينشر العلم بينهم، ولم يلبث فيها إلا قليلاً حتى عاد مرة أخرى إلى مكة زادها الله تشريفاً وتكريماً.
رجوع الشافعي إلى مكة
كان الشافعي قد وصل إلى مرحلة فريدة في العلم، فجلس الشافعي في مكة يؤصل الأصول، ويقعد القواعد، واتخذ له حلقة في مسجد الله الحرام، جمعت إليه الناس ولفتت إليه الأنظار، وازدحمت حلقة الشافعي ازدحاماً عجيباً، حتى إن الإمام أحمد إمام أهل السنة جاء حاجاً من بغداد من بلاد العراق إلى مكة المكرمة شرفها الله، فترك الإمام أحمد حلقة شيخ الشافعي سفيان بن عيينة، وعكف في حلقة الشافعي، بل ولم يكتفِ الإمام بهذا، إنما ذهب إلى أخيه وصاحب رحلته إسحاق بن راهويه وقال: تعال يا إسحاق أريك رجلاً بـمكة ما رأت عيناك مثله، يقول إسحاق : فأراني أحمد الشافعي.
وأُعجب الإمام أحمد بذكاء وعلم الشافعي إعجاباً رهيباً، لأنه يسمع أصولاً وقواعد لأول مرة يسمعها وغيره من أهل العلم، فإن أول من أصَّل الأصول وقعد القواعد هو الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، حتى قال أحمد قولته الخالدة الجميلة: لولا الشافعي ما تعلمنا فقه الحديث، وقال: كان الفقه مغلقاً على أهله حتى فتحه الله بـالشافعي، وقال : ما من أحد مس محبرة ولا قلماً بعد الشافعي إلا وله في عنقه منّة، وقال: والله ما أعلم أحداً أعظم منة وبركة على الإسلام في زمن الشافعي من الشافعي.
تابع
عدل سابقا من قبل ⓜⓔⓜⓞ في السبت 21 يونيو - 21:29 عدل 1 مرات